ظهر في بلاد المغرب والأندلس أنواع من الخطوط، وعرف الغرب الإسلامي الخط المغربي الذي عُرف بالكوفي المغربي، والخط القيرواني الذي ازدهر في القرون الأربعة الأولى بعد الهجرة، وكتبت المصاحف بتلك الخطوط وزينت حواشيها.
أما البلاط العثماني فخصص خطا خاصا به، وهو الخط الديواني الذي انتشر بعد فتح القسطنطينية في منتصف القرن التاسع الهجري، وسمى العثمانيون هذا الخط بالديواني لكثرة استعماله في دواوين الإمبراطورية ووزاراتها، بالإضافة إلى خط الطغراء الذي ميّز أسماء السلاطيين العثمانيين.
وتقول الكاتبة الأمريكية “جيرترويد ستاين” “إن تعلم الخط العربي أصبح أمرا شائعا لدى ملوك الإسلام خاصة العثمانيين، فالسلطان العثماني بايزيد الثاني كان يملك محبرة الخطاط العبقري الشيخ حمد الله الأماسي”.
في الواقع لم يكن المسلمون فقط هم الواقعون تحت تأثير سحر الخط العربي، فـ”جيرترود ستاين” تحدثت عن صديقها “بيكاسو” في العام 1938 الذي كان تحت تأثير الخط العربي، تقول: لطالما وصف بيكاسو الخط العربي بأنه كتابة جميلة، وظهر تأثيره واضحا في تصميمه لـ”باليه ميركور”، حتى إنه قال “كان عليّ أن أختار الخط العربي قبل اختيار الرسم لو تسنى لي اكتشافه قبل أعوام”. ،
الخط العربي.. سحر يُلهم الكنائس والعمارة الأوروبية
يوصّف الإمام علي ابن أبي طالب رضي الله عنه علاقة الخط العربي بالجمال والإلهام قائلا “إن جمال الكتابة هو لسان اليد وجمال الفكر”، وهو توصيف مشابه لما قاله ياقوت المستعصمي المعروف بلقب قبلة الكُتّاب عندما اعتبر أن “الخط هندسة روحانية بآلة جسمانية”. وبالتالي فقد اقتحم الخط العربي في زمن قصير منذ ظهوره خانة الفنون، ليس عند المسلمين فحسب، بل في كل العالم من دون مبالغة، ففن الخط العربي هو أصل الفنون الجميلة في العمارة الإسلامية التي ازدهرت، ولا تزال شواهدها شامخة إلى حد هذا العصر.
وحين لامست الدولة الإسلامية أطراف الدول المسيحية واقتربت من مستعمراتها وشارفت على مراكزها، حُصّنت الحدود. أما فن الخط العربي فقد تجاوزها واقتحم العمارة وورش الرسم والكنائس، فقد اتخذ ملك صقلية “روجر الثاني” (عاش بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر للميلاد) زخارف بالخط العربي في قصره، وهي أدعية بطول عمر الحاكم وبنصر الله لجيوشه كُتبت بخط عربي.
وامتد تأثير الخط العربي إلى الكنائس والمذابح والرسم والعمارة الأوروبية في إنجلترا وألمانيا واليونان. وفي القرن الرابع عشر الميلادي رسم الفنان الإيطالي “جينتل دا فابريانو” لوحته المعروفة بعنوان “تبجيل الملوك”، وظهرت على وشاح شخص في اللوحة حروف عربية، وهي زخارف استخدمها رسامون آخرون في القرن الخامس عشر مثل “أنطونيو فيفاريني” و”هنري بيليشوسو” و”جاكوبو بيلين”، وتظهر حروف قُدت بخط النسخ في زينة تمثال برونزي نحته الفنان الإيطالي “أندريا ديل فيروكيو” المعلم الأول لـ”ليوناردو دافينشي”.
صراع البقاء.. الخط في عالم رقمي يقتل الفن
استمر تأثير الخط العربي بشكل مباشر في الفن المسيحي قرونا، حتى أطلق كمال أتاتورك الزعيم القومي التركي رصاصته في بداية القرن العشرين على اللغة العربية في معقل آخر الإمبراطوريات الإسلامية في العصر الحديث، وذلك حين استبدل بالأحرف العربية الأحرف اللاتينية، فيما كانت بقية مراكز الممالك الإسلامية الصغيرة تصارع حتى لا تُدفن هويتها بسبب سيطرة الدول الاستعمارية على أراضيها.
لم تغادر جيوش الدول الغربية مثل فرنسا وبريطانيا مستعمراتها إلا وقد انتزعت مساحة كبيرة من ثقافة السكان الأصليين، وغرست ثقافتها في أروقة إداراتها ومدارسها
.لقد خسر الخطاطون في أغلب الدول العربية مكانتهم من تشريفات السلاطين ليتقهقروا إلى دكاكين صغيرة لا يكاد يلاحظها المارة. فبعد غزو المستعمرين للدول العربية، غزت الأجهزة الرقمية البيوت، وبدا أن نجم القلم والمحبرة قد بدأ بالأفول.
يُذكر أنه في العام 2021 أعلنت اليونسكو عن تصنيف الخط العربي ضمن التراث العالمي اللامادي، وهو في الواقع طلب رسمي من الدول العربية التي بدأت تتحسس اندثار الخط العربي، والذي قد يعجل بنهايته الخط الرقمي.
لقد قضت التكنولوجيا الرقمية على مهنة الخطاطين أو كادت، وذلك بفعل غزوة الحاسوب بالأساس الذي استوعبت برمجياته أصول الخط العربي، ولكن مهما بلغت اللوحات الرقمية للخط العربي لن تبلغ البتة قداسة القلم الذي ينساب من روح الخطاط على الورق.