لو علمت أن هناك فنا يدعى الخط العربي لما بدأت الرسم قط، كنت أريد أن أبلغ أسمى درجات الفن، لكنني وجدت أن الخط الإسلامي سبقني بعصور”.
مراجع عديدة تتناقل هذه المقولة للفنان الشهير “بابلو بيكاسو” الذي تأثر بالخط العربي واستلهم منه العديد من أعماله. وسواء صحت هذه المقولة ونسبتها أم لم تصح، فإن للمسلمين الحق بأن يفاخروا بفنهم هذا بين الأمم.
إنه لمن العجيب أن تحمل طرق رسم الحروف في اللغة العربية -والتي تعرف اصطلاحا بالخط العربي- أوجهاً هي الأكثر تنوعا وجمالا في فن الكتابة كلها، ليصبح الخط العربي مقصد المؤرخين ووجهة ممتعة لأشهر الأدباء والفنانين، مثل الشاعر الفرنسي “شارل بودلار”، والرسام الإيطالي “جيوتو دي بوندون” ومئات غيرهم، كما أن الخط العربي كان سفير الدولة الإسلامية في أوج انتشارها، ومفخرة الملوك والطابع العربي للحضارة الإسلامية بامتياز.s
الكتابة العربية.. سر الجمال في كثرة روافدها
لم يفصل المؤرخون بصورة قطعية في تاريخ ظهور الخط العربي وفي أصوله، وتفرعت الآراء إلى فريقين: الأول يذهب إلى أن أصل الخط العربي هو ما يعرف بالخط المسند الذي ظهر قبل الميلاد بعشرة قرون تقريبا، والمتفرع إلى أربعة أنواع من الخط. والثاني هو ما يراه المستشرقون اعتمادا على مخطوطات وآثار ونقوش، ويذهبون إلى أن الخط العربي من أصل آرامي، وتفرع عنه الخط النبطي الذي يعتبر الفرع الأقرب إلى الخط العربي.
يقول الشيخ أحمد الإسكندري والشيخ مصطفى عناني في كتابهما “الوسيط في الأدب العربي وتاريخه”، وهما من أنصار القول بأن الخط العربي مشتق مما يعرف بالخط المسند؛ “إن أول حلقة من سلسلة الخط العربي هي الخط المصري، أو هي الخط المصري القديم، ومنه اشتق الخط الفينيقي، ومن هذا اشتق الخط الآرامي والمسند بأنواعه الصفوي والثمودي واللحياني شمال جزيرة العرب والحميري جنوبها”.
ويضيفان “لقد اختلف الرواة حول أصل الخط العربي، فالمستشرقون يرون أن الخط العربي تولد من الخط الآرامي، والذي منه اشتق النبطي والسرياني، ومنه أخذ أهل الحيرة والأنبار خطهم النسخي المنسوب لهم، ثم وصل للحجاز. والعرب يقولون إنهم أخذوا خطهم الحجازي عن أهل الحيرة والأنبار من المسند، أما الكوفي الذي لم يعرف إلا بعد تمصير الكوفة فليس إلا نتيجة هندسة ونظام في الخط الحجازي”.
النشأة الأولى.. من قبيلة “طيء” في الأنبار كانت الانطلاقة
يعتقد بعض المؤرخين العرب الأوائل أن الخط العربي ينقسم إلى فرعين: الأول كوفي، وهو مشتق من أحد أنواع الخطوط السريانية ويُعرف بالأسطرنجيلي. والثاني هو النسخي وأصله الخط النبطي، وهو ما يذهب إليه الكاتب بطرس البستاني في كتابه “أدباء العرب في الجاهلية والإسلام”، حيث يُرجع ظهور الخط العربي إلى سكان الحواضر من أهل اليمن الذين طوروا الكتابة، و”يُعرف خطهم بالمسند الحميري، حروفه منفصلة، وفيه شبه كتابة بالحبشية، ومنه تفرع الخط الكوفي، وترك اليمنيون من آثارهم نقوشا حجرية يرجع أبعدها عهدا إلى المئة الثامنة قبل المسيح”، ويضيف البستاني أن عرب شمال شبه الجزيرة العربية تعلموا فن الكتابة رغم شيوع الأمية فيهم.
كما يقول البستاني “ويعود الفضل في ذلك إلى النصارى في العراق والجزيرة الذين علموا جيرانهم الخط المعروف بالجزم، وله صلة بالآرامي النبطي، فانتشرت الكتابة في الأنبار والحيرة، كما علّم النصارى الأنباط في فلسطين جيرانهم من عرب الشام الخط النسخي الجليل المتفرع من الجزم، وتعلّم القرشيون خط الجزم من نصارى الحيرة في رحلاتهم التجارية إلى العراق فحملوه إلى مكة، فظهرت الكتابة قبل الإسلام، وظهرت أيضا في يثرب”.
يُرجع بعض المؤرخين العرب ولادة الخط العربي إلى ثلاثة أشخاص من قبيلة “طيء” كانوا في الأنبار، وهم مرامر بن مرة وأسلم بن سدرة وعامر بن جدرة، فقد رسم بن مرة الحروف، أما بن سدرة ففصلها وقسمها، في حين طوّر عامر بن جدرة الإعجام أو التنقيط، وسُمي ذلك الخط بخط الجزم أي القطع، لأنه متفرع من الخط الحميري، وهو الرأي الذي يدعمه المؤرخ وعالم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته، أو بسبب تفرعه عن الخط النبطي حسب الرأي الثاني، وغالبا ما يميل المستشرقون والمؤرخون في الغرب إلى هذه النظرية.
لا يعتقد أغلب الدارسين للغات القديمة في شبه الجزيرة العربية أن الخط العربي متفرع من خط الجزم، بل يذهبون إلى أن الكتابة العربية ولدت قبل ذلك الخط بثلاثة قرون تقريبا، وهو -أي خط الجزم- ليس سوى مرحلة من مراحل تطور الخط العربي عن الكتابة النبطية، لا أصل ظهور الخطوط العربية.